فصل: مسألة أحداث السنة السابعة من الهجرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة أحداث السنة السابعة من الهجرة:

وفي السنة السابعة كانت غزوة خيبر، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انصرف من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة، وخرج في المحرم إلى خيبر، وافتتحها في صفر، ورجع في غرة ربيع الأول، وكانت حصونا كثيرة، فافتتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ابن أبي الحقيق، ومن سباياه كانت صفية بنت حيي بن أخطب، كانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أصابها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابني عم لها، فقيل: إنه أعطاها لدحية بن خليفة الكلبي ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس، وقيل: إنه كان سأله إياها، فلما اصطفاها لنفسه أعطاها ابني عمها وجعلها عند أم سليم حتى اعتدت وأسلمت، ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، فمن أهل العلم من جعل ذلك خصوصا للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، كالموهوبة، ومنهم من جعل ذلك خصوصا للنبي سنة لمن شاء من أمته، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح.
ولما وقف إلى بعض حصونهم امتنع عليه فتحه ولقوا فيه شدة، فقال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فلما أصبح دعا عليا وهو رمد فتفل في عينيه، ثم قال: خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله على يديك» فلما دنا من الحصن خرج أهله إليه فقاتلهم فضربه رجل من اليهود، فألقى ترسه من يده فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يديه وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، قال ابن رافع مولى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ راوي الحديث: فلقد رأيتني في نفر معي سبعة وأنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم، حاصرهم بضع عشرة ليلة، فسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسيرهم ويحقن دماءهم ففعل، فقيل في هذين الحصنين: إنهما افتتحا بصلح فلم يكن فيهما خمس، ولا كان لأحد فيها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، فقطع منها لأزواجه، وكذلك الكتيبة، قيل فيها: إنها كانت صلحا صافية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبني النضير وفدك، وقيل: إنها كانت عنوة كلها، وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، فقال: الصحيح أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس أرض خيبر كلها، وقسمها بين من شهد الغزاة، وهم أهل الحديبية؛ لأن أرض ذينك الحصنين مما غلب عليهم المسلمون كسائر أرض خيبر، وإنما كان الصلح في الرجال والذرية والعيال، وقد مضى القول في قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرض خيبر، وفي حكم الأرض المفتتحة عنوة عند العلماء، واختلافهم في ذلك مستوفى في سماع أشهب من كتاب الجهاد.
ولما افتتحت خيبر ولم يقدر أهلها على عمارتها وعملها أقر اليهود فيها على العمل في النخل والأرض، وقال لهم: «أقركم ما أقركم الله»، ثم أذن الله له في مرضه الذي توفي فيه بإخراجهم، فقال: «لا يبقين دينان بأرض العرب»، وقال عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض الحجاز»، ولم يكن بقي بها يومئذ مشرك وثني ولا بأرض اليمن أيضا إلا أسلم في سنة تسع وسنة عشر، فلما بلغ عمر بن الخطاب في خلافته قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض العرب» أجلاهم منها، وأخذ المسلمون سهامهم من خيبر فتصرفوا فيها تصرف المالكين.
وفي غزاة خيبر هذه حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحمر الأهلية.
وفيها أهدت اليهودية زينب بنت سالم بن مشكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشاة المصلية وسمت له منها الذراع، وكان أحب اللحم إليه، فلما تناول الذراع لفظها ورمى بها وقال: هذا العظم يخبرني أنه مسموم ودعا باليهودية، فقال: ما حملك على هذا؟ فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك، فلم يقتلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكل معه من الشاة بشر بن البراء بن مغرور فمات من أكلته تلك.
وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة رجل ومائتي فارس.
وفي هذه السنة كان فتح فدك، وذلك أنه لما اتصل بأهلها ما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك، فكانت فدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب مما أفاء الله عليه بما نصره من الرعب به فلم يقسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضعها حيث أمره الله عز وجل.
قال ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب: كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفايا بني النضير وخيبر وفدك.
وفي هذه السنة أيضا كان فتح وادي القرى، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف من خيبر إليها فافتتحها عنوة وقسمها وأصيب بها غلام له أسود يسمى مرغم أصابه سهم غرب فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كلا إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا».
وفي هذه السنة أيضا كانت عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع من خيبر إلى المدينة، فأقام بها شهر ربيع وشهر جمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال.
وبعث في خلال ذلك السرايا.
من ذلك غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي وسعد الله ومن يليهم قضاعة فخاف عمرو بن العاص من ناحية الذي هو به، فبعث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمده، فندب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين الأولين، فانتدب فيهم أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجرح، فأمد بهم عمرو بن العاص، فلما قدموا على عمرو، قال: أنا أميركم، وإنما أرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمده فأمدني بكم، قال المهاجرون: بل إنما أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلا حسن الخلق لين الشكيمة متبعا لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده، قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إِلَيَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك والله لئن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.
ثم خرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي القعدة قاصدا إلى مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، فلما اتصل ذلك بقريش خرج أكابرهم من مكة عداوة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه، فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وأتم الله له عمرته، وقعد بعض المشركين بقيقعان ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرمل ليروا المشركين أن بهم جلدا وقوة، وكان المشركون قالوا في المهاجرين قد وهنهم حمى يثرب.
وتزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، قيل: قبل أن يحرم بعمرته، وقيل: وهو محرم بها، وقيل: بعد أن حل منها، فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش أن يخرج عن مكة، ولم يمهلوه أن يبني بها، فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبنى بها في سرف.

.مسألة أحداث السنة الثامنة من الهجرة:

في السنة الثامنة كانت غزوة مؤتة، بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جمادى الأولى منها بعث الأمراء إلى الشام وأمر على الجيش زيد بن حارثة مولاه، وقال: إن قتل، أو قال: إن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، وشيعهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وودعهم، ثم انصرف، ونهضوا، فلما بلغوا مغار من أرض الشام أتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم نزل في ناحية البلقاء من لخم وجذام وقبائل قضاعة، فأقام المسلمون في معان، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نخبره بعدد عدونا فيأمرنا بأمره أو يمدنا، فقال لهم عبد الله بن رواحة: يا قوم إن التي تطلبون قد أدركتموها، يعني الشهادة، وما يقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فوافقه الجيش كله على هذا الرأي، ونهضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقوا الجموع التي ذكرنا كلها مع هرقل، إلى جنب قرية يقال لها مشارف. وصار المسلمون في قرية يقال لها مؤتة، فجعل المسلمون على ميمنتهم قطنة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري، وقيل: عبادة بن مالك، واقتتلوا، فقتل الأمير الأول زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح مقبلا غير مدبر، والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب ونزل عن فرس له شقراء، وقيل: إنه عرقبها وعقرها، فقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت، فاحتضن الراية، فقتل وهو كذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وسنه ثلاث وثلاثون أو أربع وثلاثون، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتردد عن النزول بعض التردد ثم صمم فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بن أقوم أخو بني العجلان، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: لا، فدفع الراية إلى خالد بن الوليد، وقال: أنت أعلم بالقتال مني، فأخذها خالد بن الوليد، وانحاز بالمسلمين، وأنذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالمدينة يخبرهم في يوم قتلهم قبل ورود الخبر بيومين.
وفي هذه السنة كانت غزوة فتح مكة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى ورجب، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض العهد لقريش المعقود يوم الحديبية، وذلك أن خزاعة كانت في عقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنها وكافرها، وكانت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناة على قوم من خزاعة خرج نوفل بن معاوية فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى بيتت خزاعة ونالت منهم، واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقوم منهم بأنفسهم مستخفين بذلك، فانهزمت خزاعة إلى الحرم، فقال قوم نوفل ابن معاوية لنوفل: يا نوفل اتق إلهك ولا تستحل الحرم ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة يقال له منبه، ودخلت خزاعة دور مكة في دار بديل ابن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع، فكان ذلك نقضا للصلح، فقدم بديل بن ورقاء وقوم من خزاعة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، فأجابهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نصرهم، وقال: «لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب»، ثم نظر إلى سحابة، فقال: «إنها لتستهل بنصر بني كعب» يعني خزاعة، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبديل بن ورقاء ومن معه: «إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في مدة الصلح وينصرف بغير حاجة»، وقدمت قريش على ما فعلت، فقدم أبو سفيان المدينة ليشد العقد ويزيد في المدة، ثم أتى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في المسجد وكلمه فلم يجبه، فسعى في أن يستشفع إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فيما قدم له بابنته أم المؤمنين أو أبى بكر أو بعمر بن الخطاب، فلم يجبه أحد منهم إلى ذلك، وقال له عمر: أنا أفعل ذلك؟
والله لو لم أجد إلا الدرة لجاهدتكم بها، وقال له علي بن أبي طالب هازلا به: أنت سيد بني كنانة، فقم فأجر على الناس والحق بأرضك، فقال له: يا أبا الحسن، أترى ذلك نافعي أو مغنيا عني؟ قال: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت على الناس، ثم ركب وانطلق راجعا إلى مكة، فلما قدمها أخبر قريشا بما لقي وبما فعل، فقالوا له: ما جئت بشيء وما زادك علي بن أبي طالب على أن لعب بك، ثم أعلن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسير إلى مكة وخرج في عشرة آلاف، وكان خروجه لعشر خلون من رمضان، وقد أخفى الله خبرهم عن قريش، فخرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام يتحسسون الأخبار، وقد كان العباس بن عبد المطلب هاجر مسلما تلك الأيام، فلقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا، فهو من المهاجرين قبل الفتح، ولما نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجيوش مر الظهران رقت نفس العباس لقريش وأسف على ذهابها وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهض حتى أتى الأراك وهو يطمع أن يلقى حطابا واحدا يأتي مكة، فلينذرهم، فبينما هو يمشي إذ هو سمع صوت أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان، وقد رأيا نيران عسكر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فلما سمع العباس كلامه ناداه،: أبا حنظلة، فميز أبو سفيان كلامه فناداه: أبا الفضل، فقال: نعم، فقال: فداك أبي وأمي، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس، واصباح قريش، فقال أبو سفيان: فما الحيلة؟ قال: والله إن ظهر بك ليقتلنك، فارتدف خلفي وانهض معي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارتدفه العباس على بغلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك ومر على نار عمر، فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسبقه العباس فدخل ودخل عمر على إثره، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي فيه أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله قد أمنته وأجرته فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما أصبح أتى به النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله»، فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وما أكرمك وما أوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني، قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي وأمي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه ففي النفس منها شيء حتى الآن، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا يفخر به، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة إلا من استثنى وهم عبد الله العذوي بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل والحويرث بن نقير بن وهب ومقيس بن صبابة وقينتا ابن خطل فرتنا وصاحبتها كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب والأسباب التي من أجلها استثناها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مذكورة في السير.
ولذلك قال جماعة من أهل العلم منهم الشافعي: إن مكة مؤتمنة ليست عنوة، والأمان كالصلح، ورأى أن أهلها مالكون رباعهم يجوز لهم كراؤها وبيعها وشراؤها؛ لأن من أمن قد حرم ماله ودمه، فمكة مؤمنة عند من قال بهذا القول إلا الذين استثناهم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وأمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.
وأكثر أهل العلم يرون فتح مكة عنوة لأنها أوجف عليها بالخيل والركاب، إلا أنها مخصوصة بأن لم يجر فيها قسم ولا غنيمة ولا سبي من أهلها أحد.
وخصت بذلك لما عظم الله من حرمتها.
ومنهم من يرى أنها إنما خصت بأن لا يسبى أهلها، وأما دورها فمغنومة لا يجوز بيعها ولا كراؤها.
والأصح أنها بلدة مؤمنة أمن أهلها على أنفسهم فكانت أموالهم تبعا لهم، ألا ترى إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مكة حرام محرم لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار»، ولا خلاف أنه لم يكن فيها غنيمة، فالإجماع على ذلك يقضي بصحة قول من أجاز بيع دورها وكراءها، إذ لا فرق بين الأموال والرباع.
وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يوقف أبو سفيان بخطم الوادي ليرى جيوش الله تعالى، ففعل العباس ذلك وأراه القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء مركب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار كلهم في الدروع والبيض، فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار، فقال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوءة، قال: نعم إذا تم، قال له العباس: يا أبا سفيان النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان فأتى مكة فعرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دخل داره أو المسجد ودار أبي سفيان... قوم ليقاتلوا، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرتب الجيوش، وجعل الزبير على الميمنة وخالد بن الوليد على الميسرة، وأمر الزبير بالدخول من كداء في أعلى مكة، والوليد ابن الليط أسفل مكة، وجعل الراية بيد سعد بن عبادة، فكان من قوله: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فقال له العباس: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، إن سعد بن عبادة قال كذا وكذا، إنه حنق على قريش، ولابد أن يستأصلهم، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تنزع الراية من يد سعد بن عبادة، وتدفع إلى علي، وقيل: بل إلى الزبير، وقيل: بل إلى ابنه قيس بن سعد لئلا يجد في نفسه سعد شيئا، وأمرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتال من قاتلهم، وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وقد جمعوا جمعا بالحندمة ليقاتلوا فناوشهم أصحاب خالد، فأصيب من المسلمين رجلان، ومن المشركين ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن مكة افتتحت عنوة؛ إذ هذا هو حكم العنوة.
ولما دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة طاف بالكعبة وأخذ مفتاحها من عثمان بن طلحة، فدخلها وصلى فيها، ثم خرج ورد المفتاح إلى عثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت، وقال: خذوها تالدة إلى يوم القيامة، وأمر عَلَيْهِ السَّلَامُ بكسر الصور التي داخل الكعبة وخارجها وحولها، وكسر الأصنام التي حول الكعبة وبمكة كلها، وكانت الأصنام مشدودة بالرصاص، فكان يشير إليها بقضيب في يده، فكلما أشار إلى واحد منها خر لوجهه، وكان يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، وخطب ثاني يوم الفتح خطبته المشهورة المعروفة، ثم بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السرايا حول الكعبة يدعو إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان أحد أمراء تلك السرايا خالد بن الوليد، خرج إلى بني جذيمة فقتل منهم وسبى، وقد كانوا أسلموا فلم يقبل خالد قولهم وإقرارهم بالإسلام، فوداهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعث علي بن أبي طالب بمال إليهم فودى لهم جميع قتلاهم، ورد إليهم ما أخذ لهم، وقال لهم علي بن أبي طالب: انظروا إن فقدتم عقالا أديته، بهذا أمرني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان فتح مكة فيما قاله مالك في هذه الرواية في سبعة عشر يوما من رمضان، وقد قيل: إن فتحها كان لعشر بقين من رمضان، سنة ثمان من الهجرة كما ذكرناه.
وفي هذه السنة كانت غزوة حنين، وذلك أن هوازن لما بلغهم فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه قومه من بني نصر وبنو جشم وبنو سعد وثقيف وطائفة من بني هلال بن عامر وحملت بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم دريد بن الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير لا ينتفع به في غير رأيه، فحملوه في هودج لضعف جسمه، وكانت الرياسة في جميع العسكر إلى مالك بن عوف النصري، فحشر الناس وساق مع الكفار أموالهم وماشيتهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن نفوسهم تُحْمَى بذلك وأن شوكتهم تشتد به، فنزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد بن الصمة: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة؟ قالوا: ساق ذلك مالك مع الناس ليقاتلوا عنهم، فقال لهم دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء يا مالك؟ إنه إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شاهد منهم فعزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية دروعا، قيل: مائة، وقيل: أربعمائة، وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، إلى ما انضاف إليه من الأعراب من بني سليم وبني كلاب وغيرهم، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، ونهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وقد كانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي، وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، وثبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس والفضل بن العباس وقثم بن العباس وأبو سفيان ابن الحارث وابنه جعفر بن أبي سفيان، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته الشهباء، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا أيها الناس إلى أين؟ أيها الناس أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، يا معشر المهاجرين، يا آل الخزرج، كانت الدعوة أولا يا آل الأنصار، ثم خصصت آخرا بآل الخزرج؛ لأنهم كانوا أصبر عند القتال على ما ذكر، فلما ذهبوا ليرجعوا كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ بعيره لكثرة الأعراب المنهزمين فكان يلبس درعه، ويأخذ سيفه ومجنه ويقتحم عن بعيره ويكر راجعا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا اجتمعوا حواليه مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب، واشتد الحرب وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ركائبه، ونظر إلى مجتاد القوم، فقال: الآن قد حمي الوطيس، وضرب علي ابن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ الراية علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة ورمى في وجوههم بالحصى فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، قال بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا، وقد سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم واتبعناهم حتى أتينا إلى رجل راكب على بغلة بيضا، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا وأخذ بكفه حصى أو ترابا، فرمى به، وقال: «شاهت الوجوه»، فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا، وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وأسرى هوازن بين يديه، واستحر القتل في بني مالك، فقتل منهم خاصة يومئذ سبعون رجلا منهم، ورئيسهم والخمار، وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة، وأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة فقتله، وقيل: إنه أسر، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله لمشاهدته الحرب وموضع رأيه فيها، ولما انقضى القتل نادى منادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»، وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة، وترك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم الغنائم من الأموال والنساء والذراري فلم يقسمها حتى أتي الطائف.
وفي هذه السنة كانت غزوة الطائف، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف من حنين إلى الطائف ولم ينصرف إلى مكة ولا عرج على شيء إلا على غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء، فسلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طريقه إلى الطائف على الجعرانة أخذ على قرن وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بن عوف النصري فأمر بهدمه، ثم نزل عَلَيْهِ السَّلَامُ بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف، وحاربهم المسلمون، وحصن ثقيف لا مثل له في حصون العرب، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف اليوم، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين يوما، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصب المنجنيق على الطائف ورماهم به، ونزل قوم من تحت الربابات من سور الطائف فرارا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصب عليهم أهل الطائف سكك الحديد المحماة، ورموهم بالنبل، فأصابوا منهم قوما، ونجى آخرون، منهم أبو بكرة رَحِمَهُ اللَّهُ وعبيد بن عبيد.
أهل الطائف منهم الأزرق والد نافع بن الأزرق الخارجي المنسوب إليه الأزارقة.
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع أعناب أهل الطائف إلا قطعة عنب كانت للأسود بن مسعود ولابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها، فكف عنها.
«ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف إلى الجعرانة على مقربة من حنين وقسم الغنائم هناك أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فقال لهم: قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون، فاختاروا إما ذراريكم ونساؤكم وإما أموالكم، فاختاروا العيال والذرية، قالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا صليت الظهر فتكلموا واطلبوا حتى أكلم الناس في أمركم، فلما صلى الظهر تكلموا وقالوا: نستشفع برسول الله على المسلمين وبالمسلمين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب وبني هاشم فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار: وأما ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما أن يردوا عليهم مما وقع لهم في سهمانهم، وامتنع العباس ابن مرداس وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه» فرد عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءهم وأبناءهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف إنسان فيهن الشيماء أخت النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر بنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت إلى بلادها مسرورة بدينها وما أفاء الله عليها، وقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموال بين المسلمين، وأعطى المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم، وأعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وأبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف، والعلاء بن حارثة، فهؤلاء أصحاب المئين، وأعطى رجالا من قريش دون المائة، منهم سعيد بن يربوع أعطاه خمسين بعيرا، وأعطى عباس بن مرداس أباعر قليلة فسخطها، وقال في ذلك أبياتا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقطعوا عني لسانه»، فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه.
قال موسى بن عقبة: «ولما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغنائم أو ما شاء الله منها فأكثر لأهل مكة من قريش القسم، وأجزل لهم العطاء، وقسم لغيرهم ممن خرج إلى حنين استيلافا لهم، حتى إنه ليعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة، وزوى كثيرا من القسم عن أصحابه، فوجدت الأنصار في أنفسها من ذلك، وقالوا: نحن أصحاب كل موطن شدة وبلاء ثم آثر علينا قومه وقسم فيها قسما لم يقسمه لنا، وما نراه فعل ذلك إلا وهو يريد الإقامة بين ظهرانيهم، فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم في مجلسهم فجمعهم، وقال: من كان هنا من غير الأنصار فليرجع إلى رحله، فتشهد ثم قال: حدثت أنكم عتبتم في المغانم أن آثرت بها أناسا أستألفهم على الإسلام، ولعلهم يفقهون، وقد جعل الله في قلوبكم الإيمان وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالغنائم وترجعون برسول الله؟ فوالله لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم، فارضوا، فأنتم الشعار، والناس دثار، فلما سمعوا مقالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكوا، فكثر بكاؤهم، وقالوا: الله ورسوله أمن وأفضل، فقال: ارجعوا إلي فيما أعلمتكم به، قالوا: وجدتنا يا رسول الله في ظلمات، فأخرجنا الله بك منها إلى النور، ووجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك منها، ووجدتنا ضالين فهدانا الله بك، ووجدتنا أذلة قليلا، فأعزنا الله بك وكثرنا، فرضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، افعل ما شئت يا رسول الله في حل محلل.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما والله لو جئتموني بغير هذا لقلت صدقتم، لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك؟ لقلت: صدقتم، فقالت الأنصار: بل لله ولرسوله علينا وعلى غيرنا المن والفضل، ثم بكوا الثانية وكثر بكاؤهم، وبكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم ورضي عنهم»
وكانوا بالذي سمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القول أقر عينا وأشد اغتباطا منهم بالمال.
وقد اختلف فيما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك اليوم للمؤلفة قلوبهم وغيرهم، هل كان من الخمس أو من خمس الخمس، أو من رأس الغنيمة، والأظهر أنه كان من رأس الغنيمة، إذ لو كان من الخمس أو من خمس الخمس لما وجدت الأنصار في أنفسها من ذلك ما وجدت، ولما قالت له: افعل ما شئت يا رسول الله في حل محلل، إذ التحليل إنما يكون فيما أعطى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأربعة الأخماس الواجبة للغانمين، وأما الخمس فلا حق لهم فيه إلا أن ينفلهم شيئا باجتهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد اختلف أهل العلم فيما ينفله الإمام، فقالت طائفة من العلماء: لا يكون إلا من خمس الخمس، وقالت طائفة: لا يكون إلا من الخمس، وقالت طائفة منهم: لا ينفل من الغنيمة إلا بعد الخمس، وهذا الاختلاف على اختلافهم في قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية، هل هي مخصوصة للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أو عامة محكمة أو هي منسوخة بآية الغنيمة، قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، وعلى الاختلاف في الخمس هل يقسم بالاجتهاد فيمن سمى الله في الآية وفي غيرهم أو يقسم بالسوية بين من سمى الله في الآية دون غيرهم.
فمن رأى آية الأنفال عامة محكمة غير منسوخة وأن الخمس يقسم على الاجتهاد- قال: إن الإمام ينفل من رأس الغنيمة.
ومن رآها عامة محكمة غير منسوخة، وأن الخمس يقسم بالسوية أخماسا بين من سمى الله بالآية دون غيرهم- قال: إن الإمام ينفل من الغنيمة بعد الخمس.
ومن رآها منسوخة وأن الخمس بالاجتهاد فيمن سمى الله في الآية وفي غيرهم، قال: إن الإمام إنما ينفل من الخمس، وهو مذهب مالك.
ومن رآها منسوخة وأن الخمس يقسم بالسوية أخماسا بين من سمى الله في آية الخمس، قال: إن النفل إنما يكون من خمس الخمس.
وفي هذا العام اعتمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة، وذلك أنه لما أتى على قسمة الغنائم خرج منها إلى مكة معتمرا، وأمر ببقايا الفيء فخمس بناحية الظهران، فلما فرغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرته استخلف على مكة عتاب بن أسيد ورجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة، وكان خروجه منها لعشر خلون من رمضان، فكانت مدة مغيبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها وأوقع بهوازن بحنين وحارب الطائف واعتمر إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وأربعة عشر يوما.
وانهزم يوم حنين مالك بن عوف رئيس جيش المشركين، فلحق في انهزامه بالطائف كافرا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أتاني مسلما لرددت إليه أهله وماله» فبلغه ذلك فلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خرج من الجعرانة فأسلم وأعطاه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم، وهو أحدهم ومعدود فيهم، واستعمله على من أسلم من قومه ومن قبائل قيس، وأمره بمناورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حاشى عيينة بن حصن فلم يزل مغموزا عليه.
وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله كالحارث بن هشام وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون ذلك، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم.
وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وكان خيرا فاضلا ورعا.